عائلة المصاهر
قد يقول البعض أن التجارب التي نخوضها في الصغر لا تحدد من نكون في الكبر، وقد يصح هذا الكلام ولكنه معاكس لما حدث مع الروسي سيرجي أخماتوف الذي ظهر شغفه وحبه لمصاهر الألمنيوم في مرحلة مبكرة من حياته خلال نشوئه في سيبيريا.
اقرأ المزيدكيف تتصدر شركة الإمارات العالمية للألمنيوم العالم في مجال الأبحاث لتحويل بقايا البوكسيت وهو المنتج الثانوي خلال عملية تكرير الألومينا،إلى مواد ذات قيمة اقتصادية
كارل جوزيف باير هو اسم مألوف للعديد من العاملين في مجال تصنيع الألمنيوم. ففي عام 1887، طور المهندس النمساوي عملية كيميائية لاستخراج الألومينا من خام البوكسيت وهي المادة الأولية التي تستخدم في مصاهر الألمنيوم ، ولا تزال طريقته تستخدم حتى اليوم لإنتاج جميع الألومينا في العالم تقريباً، . ولولا هذا الاكتشاف، لم يكن باستطاع العالم تحقيق التطور الذي وصل إليه اليوم.
لكن لسوء الحظ، يوجد مشكلة في هذه العملية، حيث لم يتم إيجاد حل جذري لمعرفة كيفية تحويل بقايا البوكسيت- المواد الناجمة عن عمليات التكرير- إلى منتجات قابلة للاستخدام وذو قيمة اقتصادية في الصناعة.
على الرغم من الأبحاث التي أجريت على مدار أكثر من قرن حول كيفية الاستفادة من بقايا البوكسيت، والتي نتج عنها أكثر من 1200 براءة اختراع، والمئات من التجارب الناجحة تقنياً، يُعتقد أنه يتم استخدام أقل من أربعة ملايين طن من أصل 150 مليون طن من بقايا البوكسيت الناتجة سنوياً في عمليات الإنتاج. وعليه، يُعتقد أن هناك أكثر من أربعة مليارات طن من بقايا البوكسيت في المخازن المُدارة حول العالم، أكثرها في أستراليا والصين والبرازيل.
تُدير شركة الإمارات العالمية للألمنيوم موقعاً مخصصاً لتخزين بقايا البوكسيت وفقاً لأعلى المعايير العالمية والممارسات المتبعة، ويقع على بعد 35 كيلومتر من ساحل أبوظبي في منطقة خليفة الصناعية. ويتم غسل بقايا البوكسيت وضغطها لتصبح في شكل قالب (بحيث تحتوي على أقل من 30٪ من الماء) للتخزين الدائم والمُدار.
إلا أن شركة الإمارات العالمية للألمنيوم وحكومة الإمارات غير مقتنعتان تماماً بهذا الحل على المدى البعيد، لأن جميع الصناعات الثقيلة في الدولة تتجه إلى العمل والإنتاج وفق أعلى المعايير البيئية، ومن جهة أخرى، تمتلك دولة الإمارات مساحة أرض تعتبر صغيرة نسبياً للتخزين، ولا تفضل التخلي عن مساحة ثمينة من أرضها من أجل أعمال تخزين لا تساهم في عمليات الإنتاج.
من جانب شركة الإمارات العالمية للألمنيوم، تلتزم الشركة بدعم اقتصاد الإمارات حيث تطمح إلى أن تصبح شركة رائدة عالمياً في مجال الصناعات المستدامة، ومتصدرة في مجال تطوير الاقتصاد المعرفي، مما يعني مواصلة الاستثمار في البحث والتطوير لتحسين كل مرحلة من مراحل عمليات التصنيع والإنتاج.
إذاً، التحدي الذي يواجهه الباحثون في شركة الإمارات العالمية للألمنيوم هو: إيجاد حل بديل عن لتخزين بقايا البوكسيت.
وقد نجحت الشركة بالفعل في تحويل منتج ثانوي يصعب استخدامه ألا وهو بطانة الخلايا المستهلكة، إلى مصدر ذو قيمة صناعية. وبطانة الخلايا المستهلكة هي عبارة عن البطانات الداخلية المستخدمة لخلايا الاختزال التي يتم فيها صهر الألمنيوم. وحول العالم، ينتج عن صناعة الألمنيوم أكثر من مليون طن من بطانة الخلايا المستهلكة كل عام، ومعظمها يذهب إلى التخزين لمدة غير محدودة.
إلا أنه في شركة الإمارات العالمية للألمنيوم، يتم تزويد مصانع الإسمنت ببطانة الخلايا المستهلكة لاستبدال بعض أنواع الوقود والمواد الحرارية المستخدمة. وفي السنوات الأخيرة، قامت الشركة بتزويد مصانع الإسمنت في الإمارات بكمية من بطانة الخلايا المستهلكة تفوق تلك التي أنتجتها، مما ساهم في تقليل كمية المخزون من السنوات السابقة.
والآن، تعمل الشركة على الاستفادة من هذا النجاح في البحث عن استخدامات مشابهة ومفيدة لبقايا البوكسيت.
أبحاث شركة الإمارات العالمية للألمنيوم
هنا يبرز المهندس "عبدالله العور" مهندس الأبحاث في شركة الإمارات العالمية للألمنيوم. تخرّج عبدالله العور من جامعة الإمارات العربية المتحدة عام 2015 بشهادة في الهندسة الكيميائية. وانضم سريعاً إلى شركة الإمارات العالمية للألمنيوم بعد أقل من عام على تخرجه، حيث تدرب في الشركة أثناء دراسته في قسم التكنولوجيا والتطويروالنقل. وفي أواخرعام 2018، أصبح عبدالله أصغر عضو في فريق أبحاث واستخدامات بقايا البوكسيت الذي تم تشكيله عام 2016 للتركيز حصرياً على اكتشاف طرق لتحويل النفايات إلى منتجات ذات قيمة.
يقول عبدالله: "تُشكل المهمة تحدياً كبيراً لنا وهذا ما يجعل العمل ممتعاً. لقد جئت من عائلة من الخريجين الأكاديميين، العديد منهم من حملة شهادة الدكتوراة، لذا فالمعايير عالية هنا ولدي الكثير لأحققه".
يتابع عبدالله كلامه مع ضحكة: "بصراحة، عندما كنت صغيراً كنت متمرداً وأردت أن أحترف كرة القدم، لكن لم ينجح الأمر، لكنني كنت جيداً في مادتي الرياضيات والفيزياء وفكرت وقتها ‘لما لا أصبح مهندساً؟’".
منذ انضمامه إلى الفريق، يساعد عبدالله في البحث عن طرق ليست فقط لتحويل بقايا البوكسيت إلى مواد غير ضارة، إنما أيضاً تحويلها إلى شيء يمكن لكل من الشركة والدولة الاستفادة منه. ويقول عن ذلك: "ما زالت الأبحاث جارية حول العالم منذ عقود حتى الآن، وهناك تجارب ناجحة في تحويل كميات صغيرة إلى مواد بناء. لكن ما نقوم به هنا مختلف جداً، فنحن مصممون على إيجاد حل لاستخدام جميع بقايا البوكسيت التي تنتج يومياً في شركة الإمارات العالمية للألمنيوم".
ولتحديد ما هي المنتجات التي يمكن استخدامها والاستفادة منها على نطاق واسع، أخذ الفريق يبحث في بدائل أخرى، وتم استبعاد أفكار وصل إليها الفريق مسبقاً مثل استخدام بقايا البوكسيت لبناء الطوب، وذلك بسبب ضعف الطلب المحلي عليه. وبدلاً من ذلك، قرر الفريق النظر في الموارد الطبيعية التي تفتقر إليها الدولة من أجل الخروج بأفكار لمنتجات تحتاجها الدولة فعلياً.
وقد اتضح أنه على الرغم من أن الإمارات تعد دولة صحراوية، إلا أنها تحتاج دائماً إلى الرمال لبناء الطرقات وما إلى ذلك، وللأسف، توجد في الإمارات وفرة من الرمال الطبيعية، إلا أنها ناعمة جداً ودقيقة ولا يمكن استخدامها في البناء. ولذلك، تنفق الدولة مئات الملايين من الدولارات كل عام لاستيراد الرمال من الخارج.
ثم أدرك الباحثون أنه إذا استطاعت شركة الإمارات العالمية للألمنيوم إيجاد طريقة لاستخدام بقايا البوكسيت كبديل للرمل في بناء الطرق، فستساهم بشكل كبير في سد حاجة الدولة الماسة للرمل وتقليل تكاليف استيراده من الخارج.
لكن لا يكمن التحدي فقط في إيجاد الحل، إنما أيضاً في تطبيقه على أرض الواقع وبتكلفة محمولة. ومع كل هذا، ما زالت الشركة عازمة على تصنيع منتج مفيد بيئياً واقتصادياً للدولة.
و الأكثر مثيراً للاهتمام في ما يعمل عليه فريق الأبحاث في الشركة هو تحويل بقايا البوكسيت إلى نوع من التربة المُصنعة التي تستخدم في تنسيق الحدائق. يوضح عبد الله ذلك: "بعد عملية باير للتكرير، تتبقى بعض المواد الكيميائية في بقايا البوكسيت مما يجعلها غير مناسبة لنمو النباتات. ونقوم بالعمل على إيجاد طرق عملية لإزالتها أو تغييرها إلى شيء مفيد عن طريق إضافة أشياء أخرى مثل السماد لجعلها مناسبة للنباتات. وحتى الآن، وجدنا أن بقايا البوكسيت المعالجة بشكل خاص لدينا أفضل بكثير من رمال الكثبان الرملية لأنها تحتوي على مياه أكثر، ولديها بعض العناصر المفيدة التي تحتاجها النباتات".
وبالفعل، تجاوزت الفكرة كونها مجرد حلم بكثير. ففي إحدى أركان مكتب استقبال الشركة، ينمو نباتان منزليان في التربة المنتجة من بقايا البوكسيت المعالجة. كما توجد ثلاثة من هذه النباتات المعالجة بالبوكسيت على عتبة نافذة مكتب رئيس عبدالله، وهو السيد. عبدالله الزرعوني - نائب رئيس قسم التكنولوجيا والتطوير والنقل في شركة الإمارات العالمية للألمنيوم.
حالياً، يحتاج الفريق إلى معرفة كيفية القيام بذلك على نطاق أوسع بكثير، وبتكلفة منطقية من الناحية الاقتصادية، وبالطبع، آمنة لاستخدامها من قبل الجميع. إذ أنه ليس من السهل الانتقال من مرحلة زرع نباتات محدودة في أصيص، إلى مرحلة إنتاجها بالجملة، ولكن إذا نجحت الفكرة، فستكون خيارات الإنتاج لا حصر لها.
يقول عبدالله: "تخيل لو تمكنا من إنتاج مادة يمكن بيعها، هذا يعني أننا لن نحتاج إلى كل هذه الشاحنات لنقل المخلفات الصناعية، وبالتالي لسنا بحاجة لمساحة من الأرض لتخزينها".
ووضح أكثر: "سيكون بإمكاننا تحويل المواد التي تشكل عبئاً مادياً وتحديًا بيئياً طويل المدى، إلى إيرادات مستمرة، وبالتالي، خلق اقتصاد متجدد يستفيد منه الجميع. وسيكون هذا إنجازاً كبيراً للشركة، وفخراً عظيماً لنا حيث نساهم في اقتصاد وازدهار الدولة".
ويشير عبدالله بكلامه إلى نقطة مهمة هنا، حيث تتطلب معظم المشاكل الكبيرة حلولاً كبيرة بنفس القدر، ولا يوجد أحد في وضع أفضل للعثور على هذه الحلول أكثر من المؤسسات الكبيرة ذات الميزانيات الضخمة والعقول العبقرية. لكن بالطبع، لا يمكنها إيجاد الحلول بمفردها دون التعاون مع الجهات الأخرى.
البقاء في المقدمة
يعمل عبدالله مع فريق متعدد التخصصات يتعاون أفراده مع الجامعات ومعاهد الأبحاث في دول عدة حول العالم بما في ذلك أستراليا والولايات المتحدة وأوروبا والإمارات العربية المتحدة نفسها، وذلك من أجل تطوير أفكار جديدة. وتبقى العديد من هذه الأفكار والحلول سراً يخضع لحراسة مشددة، نظراً للإمكانات التجارية المستقبلية الضخمة لها، والطبيعة التنافسية الشديدة لهذه الصناعة.
يوضح عبدالله: "يعتبر قطاع الألومينا مجال صناعي صغير مقارنة بالقطاعات الأخرى الكبرى، وأنا متأكد من أنها مهتمة كثيراً برؤية ما نقوم به. في النهاية، نحن نتنافس على نطاق عالمي ونريد أن نكون الأفضل، لذلك يجب أن نكون حذرين للغاية فيما نقوله للعلن".
يقضي عبدالله الجزء الأكبر من أسبوعه في العمل في المختبر، حيث يقوم باختبار هذه الأفكار والتحقق من نتائج الاختبارات السابقة. ثم يتم اختبار هذه الأفكار الواعدة على أرض الواقع، بمساعدة فريق العمليات في الموقع، ويتطلب العمل المكثف والتدريجي من هذا النوع الكثير من الانضباط والصبر والعمل الجماعي.
يوضح عبدالله ذلك مازحاً: "هناك قول مأثور: ‘لم أكتشف الطريقة الناجحة لكنني اكتشفت 50,000 طريقة غير ناجحة، وكل هذه الأبحاث والمحاولات ضرورية لإيجاد الحل، ولشخص مثلي ما زال في منتصف العشرينات من عمره، هذه طريقة رائعة للتعلم وإثراء مخزون الخبرة والمعرفة".
لكن الأهم من ذلك كله بالنسبة لعبدالله، هو الحماس المتمثل في التحدي للوصول للهدف، وهي مهمة يعتقد أنها قابلة للتحقيق نظراً للتقدم الذي تم إحرازه بالفعل في الشركة: "لقد اكتشفنا الكثير من الاستنتاجات. أصبحنا نعرف الكثير من الأشياء التي نعتقد أنه لا أحد يعرف عنها بعد. وسنعمل على أن نكون الأول في العالم لإيجاد حل".
مع كل هذا العمل الشاق والتعاون مع الجهات الأخرى، قد ينجح الفريق في السنوات المقبلة في إيجاد حل لا يفيد فقط الشركة ودولة الإمارات العربية المتحدة فحسب، ولكن يشمل كل مصانع الألومينا الرئيسية وما حولها والمجتمعات المحيطة بها في جميع أنحاء العالم. وسيكون ذلك إنجازاً تاريخياً آخراً تسجله دولة الإمارات العربية المتحدة، ودليلاً آخراً على أن صناعاتها الرائدة لا تتنافس فقط مع الأفضل، بل تضع المعايير لمستقبل الصناعة.